X

الطب الاستوائي في رومانيا

تفكك الإمبراطوريات الاستعمارية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي جاء على خلفية انتشار الأفكار المروجة للمساواة بين الأمم وتعاظم نضال الشعوب المسعمرة من أجل الاستقلال . فقد انفتحت الدول الناشئة في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية على العالم وأقامت علاقات تعاون مع بلدان عديدة فوجهت رومانيا سياستها الخارجية نحو دول العالم الثالث بينما خصصت لها دول الشمال برامج إغاثة ومساعدة اقتصادية وتعليمية في محاولة منها للمساهمة في إزالة تداعايات المآسي الإنسانية من المجتمعات المتضررة جراء النزاعات المسلحة أو للمساهمة في تطوير المجتمعات المتخلفة. ومع الزيادة التي شهدها تنقل الأشخاص بين شمال القارة وجنوبيها على خلفية الانفتاح الجديد زادت المخاطر الصحية المترتبة على حركة الأشخاص فسعت رومانيا إلى تطوير مجالات جديدة للبحث العلمي الطبي ومن بينها مجال أمراض المناطق الحارة . ولكن حالة التناحر بين الكتلة الاشتراكية التي تضمنت الدول الديمقراطية السابقة التي احتلها الاتحاد السوفييتي عام 1945 وحولها إلى أنظمة ديكتاتورية قمعية وبين الدول الغربية الحرة كانت لها انعكاسات واضخة في مجالات شتى ومن بينها الطب الاستوائي . المؤرخ بوغدان كريستيان إياكوب – مؤلف كتاب حول تاريخ الطب الاستوائي في رومانيا قبل عام 1989 قارن بين الكتلة الاشتراكية والعالم الغربي من ناحية موقف كل منهما إزاء الطب الاستوائي في ستينيات القرن الماضي وهو الموضوع الذي تطرق إليه أيضا الطبيب لودوفيك باون – أحد أبرز الأخصائيي أمراض المناطق الحارة .لنستمع إلى المؤرخ بوغدان كريستيان إياكوب :


”كانت المنشورات العملية التي صدرت في الدول الاشاراكية في ستينيات القرن الماضي تقلل من شأن خبراء الطب الاستوائي الغربيين ودورهم في تطوير هذا المجال .وهنا تجدر الإشارة إلى أن قرارا صدر عام 1974 عن جمعية الصحة العالمية وهي هيئة برلمانية تابعة لمنظمة الصحة العالمية قضى بتأسيس برنامج خاص لدراسة أمراض المناطق الحارة كان قد أقر بمبادرة من الدول الاشتراكية والدول الإفريقية لكن في الواقع كان الغربيون هم من طرحوا لأول مرة فكرة التنسيق بين بلدان العالم من أجل تطوير أبحاث الطب الاستوائي . وقد تطرق الطبيب الروماني لودوفيك باون إلى دور الدول الغربية في دراسة الأمراض الاستوائية بعد عامين على إقرار القرار وذلك أثناء حضوره الجلسة الأولى للبرنامج الخاص بدراسة أمراض المناطق الحارة التابع لمنظمة الصحة العالمية.وأكد الطبيب باون أن أيا من الدول اشتراكية لم تشارك في الأبحاث العلمية تلك لمجرد أن الدول الاشتراكية لم تكن مهتمة بتكوين أخصائي أمراض استويائية قادرين على دعم مثل هذا الرنامج العلمي واسع النطاق على المدى البعيد .كما لاحظ الدكتور باون أيضا مشاركة منظمات مالية دولية وشركات أدوية في ذلك الاجتماع . وقد تم أثناء الاجتماع إطلاق برنامج واسع للبحث العلمي الطبي مع تأمين أسواق للأدوية الجديدة التي كانت ستنتج في المستقبل.”


بدايات تاريخ الطب الاستوائي الغربي تعود إلى الفترة الاستعمارية. لكن حالة التناحر بين الأنظمة الرأسمالية والاشتراكية انعكست أيضا في تباين الرؤى عن بين الكتلين. فقد اعتبرت الأنظمة الشيوعية أن الطب الاستوائي الغربي يركز على الكنولوجيا في المقام الأول واقترحت في المقابل التركيز على المريض والتربية الصحية. يقول بوغدان كريستيان ياكوب إن حتى إيجاد مصطلحات طبية مشتركة بين الجانبين كان أمرا مستعصيا :” الطب الاستوائي كان مهملا في رومانيا في ستينيات القرن الماضي . فحتى مصطلح “استوائي ” كان ممنوعا استخدامه بحيث سميت البلدان الاستوائية “بالبلدان الحارة ” وصنفت الأمراض الاستوائية ضمن قائمة الأمراض المعدية في سياق مشاركة رومانيا في برنامج القضاء على الملاريا . من جانب آخر لم ترغب قيادة رومانيا في ستينيات القرن الماضي في الانخراط في بلدان جنوب الصحراء وهو سبب آخر في عدم تطوير مجال الطب الاستوائي في رومانيا في ستينيات القرن الماضي إلا أن الأمور تغيرت ابتداء من عام 1970 عندما رأى نيكولاي تشاوشيسكو في الجنوب العالمي بديلا اقتصاديا وسياسيا عن الغرب والدول الاشتراكية الأخرى ومصدرا للمواد الأولية .”



تطور الطب الاستوائي في رومانيا اعتمد على عاملين أساسيين أولهما أسيوي والآخر إفريقي. فالعامل الأول هو التعاون مع الهند حيث استفاد الأطباء الرومانيون ومن بينهم لودوفيك باون من دورات تدريب في الهند .أما العامل الثاني فتمثل في المساعدة الطبية التي قدمتها رومانيا لبعض الدول الإفريقية ومن بينها الكونغو كينشاسا أي وجمهورية الكونغو الديمقراطية الحالية والكونغو وغينيا وأنغولا وموزمبيق بإرسالها أطباء إلى تلك البلدان تمكنوا أثناء عملهم هناك من دراسة الأمراض الاستوائية. لكن اتساع رقعة وباء الكوليرا إلى منطقة البلقان وغرب الاتحاد السوفييتي في عام 1961 كان العامل الحاسم الذي أقنع السلطات الرومانية بضرورة إيلاء الاهتمام لهذا المجال بشكل فعلي . كما أن وجود طلاب آسيويون وأفارقة في رومانيا إلى جانب عاملين رومانيين عائدين من تلك البلدان وهم يحملون عدوى مميزة للمناطق الحارة دون أن تظهر عليهم أعراض الإصابة دفعت عجلة الأبحاث الطبية وإنتاج اللقاحات المضادة. وفي عام 1974 أنشئ قسم أمراض المناطق الحارة في مستشفى الأمراض المعدية في بوخارست وحقق البحث العملي نجاحات كبيرة خاصة في علاج الملاريا وداء البلهارسيا وداء المثقبيات ومرض النوم وداء الليشمانيات والجذام وداء الفيل وداء الأورام. كما تضمن البرنامج دراسة الأمراض المعدية التي تقتضي فرض الحجر الصحي مثل الكوليرا والحمى الصفراء والطاعون والتيفوس الطفيلي والجدري.


في سبعينيات القرن الماضي اتبع الطب الاستوائي الروماني نهجا جديدا فأصبحت مراجع مؤلفي المقالات العلمية تتضمن أسماء أطباء وباحثين غربيين خاصة من بلدان ناطقة بالإنكليزية .كما طبقت رومانيا نموذجا مستقلا للبحث العلمي لم يكون مستوحى من الغرب ولا من الكتلة الاشتراكية. أما في ثمانينيات القرن الماضي فركز اهتمام عالم الطب على مرض الإيدز والتحديات الجديدة التي فرضت على الأجندة الدولية مواضيع نقاش جديدة طبية وأخلاقية وسياسية واقتصادية.


X

Headline

You can control the ways in which we improve and personalize your experience. Please choose whether you wish to allow the following:

Privacy Settings